أبراج متوحشة
قصه قصيرة كتبها أحمد كمال (فيلسوف القصة)
كان لي بيتاً صغيراً ، في حقل كبير ، وأنا بهما سعيد ، بنيته من طين أديم الأرض ، في الصيف تداعبك نسمات الهواء ، وفي الشتاء يؤويه دفئ الشمس وفيه غرف من ورائها غرف وأسفله قبو ، وفوق سطحه برج حمام ، فيه حمام نشيط ، يأتي من كل صوب ، في كل يوم ، ويذهب متى شاء ، ويأتي متى يريد ؟! ويحتضن البيت الصغير شجرة " توت " لها ظل عظيم ، تستظل به العصافير ، وتعشش عليها ، وتسكن فيه ، وهي في الوقت نفسه منبه رباني عظيم ، إذ في كل صباح تزقزق العصافير ، فتوقظ الميت مبتسماً على لحن سيمفوني جميل ، وأحاطت بالبيت أزهار الفل والياسمين فأشتم عبقها كأني في جنة الخالدين ، ولا أتعطر وأنا خارج بل أكتفي بالمرور بين عزة الفل ، وعنفوان الياسمين فأقبلهما قبلة تعطرني سنين ، وتناديني الأزهار بكل ألوانها لتصبح ، وأنا أسمع من داخلها أصوات طنين النحل ، وخلايا عسله ليست ببعيد ، وحول كل هذا حقلي الكبير ،، أزرعه بثمار القطن والقمح ، والفول والبرسيم ، وتحرسه أشجار النخل والتين والزيتون ، ويرويه نيل عظيم أراه من شرفتي يركض ، ليروي عطش السائلين ، وعمالي شهداء ، غرسوا البذرة وشدوا الحزام حول الخصر وتركوا الحصاد للاحقين ؟!
وذات يوماً آتاني رجل متقرقن أنيق ، في سيارة يقال لها "شبح" يرتدي ثياب المدينة ويفوح منه عطراً أبكى الفل ، وكاد أن يقتل الياسمين ، وألوان ثيابه أنف منها الورد وكاد أن يذبل لولا اللطف. أحاط به حرس مهيب ، طول ليس له بعد ، وعرض ليس بعده وسع ، لوثوا الهواء ، وسببوا اختناق ، نظرت وبه انبهرت ، وعليه أقبلت ، وبه في حقلي رحبت ، دقت نغمات جواله ، فشردت العصافير ، وأشعل سيجاره "الكوبي" الفخيم فزمجرت شجرة التوت تكاد أن تفترسه لولا أن لي عندها تقدير ، وعرض علي عرض .
- هيا بنا نسوي برج ، سيعود علينا بربح وفير .
وأردت أن أستريح ، وكل سلالتي من بعدي كذلك تستريح فوافقت ، وأنا لا أدرك أني أطيح ؟!
غزت الحقل عشرات المعدات الهمجية ، وآلاف العمال الوحشية يقتلعون كل الماضي ، ويدكون الحاضر ، ويسحقون مستقبلي بسرعة شيطانية ، وقام برج ، يليه برج ، يليه برج حتى انقطع السرج ، وسكنت شقه في أحد الأبراج ، وأموالي في البنك خذ منها ماتحتاج ، ولكني أصبحت لا أنام ؟! ففي كل ليله مع غروب الشمس يأتيني خطاب ، مرسل في لاشئ ، ولا يحوي إلا سؤال ، ماالذي فعلته ببيتي ؟ ولماذا قتلت حقلي المعطاء ؟... ولا جواب
وفي كل يوم يوشك أن يثور بداخلي بركان ، كل صباح أستيقظ على أبواق السيارات ، وأتطلع من شرفتي فأرى النهر يحتضر ، والعطر الذي ألفته أنفي لم يعد ، وآه ياشجرة "التوت" أسمع نحيبها كل ليلة كطفلة وئدتها في قبر الجاهلية وثار البركان ، وأنفجر الإنسان ، ورحت أمسك فأس ومعوال ، أضرب الإسفلت ، أحطم الجدران ، ولكن بعد لحظات أصابني إرهاق ، ودرت حول نفسي مشدوهاً ، أبكي ، أنتحب ، أضرب الخدود ، أقلب الكفوف ، وأرثى لحالي ورحت أصيح - أيتها الأبراج المتوحشة من جاء بك إلى هنا .
تمت ؛؛
قريباً في الأسواق مجموعتي القصصية (ذات تبحث عن نفسها) جزء أول ... دعواتكم
قصه قصيرة كتبها أحمد كمال (فيلسوف القصة)
كان لي بيتاً صغيراً ، في حقل كبير ، وأنا بهما سعيد ، بنيته من طين أديم الأرض ، في الصيف تداعبك نسمات الهواء ، وفي الشتاء يؤويه دفئ الشمس وفيه غرف من ورائها غرف وأسفله قبو ، وفوق سطحه برج حمام ، فيه حمام نشيط ، يأتي من كل صوب ، في كل يوم ، ويذهب متى شاء ، ويأتي متى يريد ؟! ويحتضن البيت الصغير شجرة " توت " لها ظل عظيم ، تستظل به العصافير ، وتعشش عليها ، وتسكن فيه ، وهي في الوقت نفسه منبه رباني عظيم ، إذ في كل صباح تزقزق العصافير ، فتوقظ الميت مبتسماً على لحن سيمفوني جميل ، وأحاطت بالبيت أزهار الفل والياسمين فأشتم عبقها كأني في جنة الخالدين ، ولا أتعطر وأنا خارج بل أكتفي بالمرور بين عزة الفل ، وعنفوان الياسمين فأقبلهما قبلة تعطرني سنين ، وتناديني الأزهار بكل ألوانها لتصبح ، وأنا أسمع من داخلها أصوات طنين النحل ، وخلايا عسله ليست ببعيد ، وحول كل هذا حقلي الكبير ،، أزرعه بثمار القطن والقمح ، والفول والبرسيم ، وتحرسه أشجار النخل والتين والزيتون ، ويرويه نيل عظيم أراه من شرفتي يركض ، ليروي عطش السائلين ، وعمالي شهداء ، غرسوا البذرة وشدوا الحزام حول الخصر وتركوا الحصاد للاحقين ؟!
وذات يوماً آتاني رجل متقرقن أنيق ، في سيارة يقال لها "شبح" يرتدي ثياب المدينة ويفوح منه عطراً أبكى الفل ، وكاد أن يقتل الياسمين ، وألوان ثيابه أنف منها الورد وكاد أن يذبل لولا اللطف. أحاط به حرس مهيب ، طول ليس له بعد ، وعرض ليس بعده وسع ، لوثوا الهواء ، وسببوا اختناق ، نظرت وبه انبهرت ، وعليه أقبلت ، وبه في حقلي رحبت ، دقت نغمات جواله ، فشردت العصافير ، وأشعل سيجاره "الكوبي" الفخيم فزمجرت شجرة التوت تكاد أن تفترسه لولا أن لي عندها تقدير ، وعرض علي عرض .
- هيا بنا نسوي برج ، سيعود علينا بربح وفير .
وأردت أن أستريح ، وكل سلالتي من بعدي كذلك تستريح فوافقت ، وأنا لا أدرك أني أطيح ؟!
غزت الحقل عشرات المعدات الهمجية ، وآلاف العمال الوحشية يقتلعون كل الماضي ، ويدكون الحاضر ، ويسحقون مستقبلي بسرعة شيطانية ، وقام برج ، يليه برج ، يليه برج حتى انقطع السرج ، وسكنت شقه في أحد الأبراج ، وأموالي في البنك خذ منها ماتحتاج ، ولكني أصبحت لا أنام ؟! ففي كل ليله مع غروب الشمس يأتيني خطاب ، مرسل في لاشئ ، ولا يحوي إلا سؤال ، ماالذي فعلته ببيتي ؟ ولماذا قتلت حقلي المعطاء ؟... ولا جواب
وفي كل يوم يوشك أن يثور بداخلي بركان ، كل صباح أستيقظ على أبواق السيارات ، وأتطلع من شرفتي فأرى النهر يحتضر ، والعطر الذي ألفته أنفي لم يعد ، وآه ياشجرة "التوت" أسمع نحيبها كل ليلة كطفلة وئدتها في قبر الجاهلية وثار البركان ، وأنفجر الإنسان ، ورحت أمسك فأس ومعوال ، أضرب الإسفلت ، أحطم الجدران ، ولكن بعد لحظات أصابني إرهاق ، ودرت حول نفسي مشدوهاً ، أبكي ، أنتحب ، أضرب الخدود ، أقلب الكفوف ، وأرثى لحالي ورحت أصيح - أيتها الأبراج المتوحشة من جاء بك إلى هنا .
تمت ؛؛
قريباً في الأسواق مجموعتي القصصية (ذات تبحث عن نفسها) جزء أول ... دعواتكم