البائع المتجوّل
قصّة قصيرة
بقلم الدّكتور / طلال محمّد الدّرويش
منذ أن وعيت جارنا ، البائع المتجوّل ، يسكن في الشّقّة تحت بيتنا ، لم أكن بحاجة إلى من يوقظني لصلاة الفجر ؛ فقد كانت رائحة الزّيت المحروق المنبعثة من مقلًى اعتاد قلي شرائح البطاطا ، والباذنجان ، والكبّة فيه ، كفيلة بإصابة صدور الجيران جميعًا بربو مزمن ، توقظهم نوباته قبل الأذان !!
كان " أبو عفيف " يرتّب بضاعته في عربة متواضعة جمعها من هيكل عربة قديمة للأطفال ، وصندوق خشبيّ غطّاه بلوحٍ زجاجيّ ، سمحت التّشقّقات فيه للذّباب أن يدخل ليسرح ، ويمرح ، ويلقي على الطّعام ما يرفع من قيمته الغذائيّة !!
وما رأيت تجمّعًا لعمّال في ساحة ، أو مدخل سوق ، إلاّ علمت أنّهم تحلّقوا حول " أبي عفيف " يتزوّدون منه بما لذّ في أفواههم من طعام لم تكشف لهم عيونهم عن مكوّناته ، أو طريقة إعداده !!
وكان صاحبنا صاحب صوت نديّ ، يشدّ الزّبائن إليه ، ويطرب المصلّين في مسجد الحيّ الّذي كان يؤذّن فيه خمس مرّات في اليوم ... وكان الجميع يعرف رقّة حاله ، ووضع عياله ؛ فيمدّون إليه يد العون ، في الأعياد خاصّة . وزاد إشفاقهم عليه بعدما فقد ابنه " عفيفًا " الّّذي مزّقت جسده قذيفة عشوائيّة في أثناء الحرب .
دعتني أمّه الحاجّة مرّة ؛ لعلّي أساعدها بإصلاح قابس الكهرباء الّذي تعطّل عن العمل في أثناء قيامها بغسل الثّياب .. أذكر أنّني لبّيت طلبها مسرعًا . ولكنّني أذكر أيضًا أنّني سارعت إلى الاعتذار عن عدم مساعدتها ، بأنّي لا أملك المفكّ اللاّزم ، وطرت إلى الخارج لا ألوي على شيء ، وقد كاد الغثيان يفجّر معدتي بما فيها ، وكنت قد فرغت من غدائي للتّوّ !! ولا تسلني عن السّبب ! ولكن يكفي أن أذكر لك ما يغنيك عن التّساؤل : لقد كانت الصّراصير " المخمّرة " في زيت مقلى " أبي عفيف " ، وقد " تقرمدت " على السّطح ، كفيلة بأن تغثّ من لا يتغثّى !!
وفي هذا الجوّ ، تكدّس أفراد العائلة العشرة ، تشاركهم حياتهم حشرات مدلّلة ، وقطط تتسلّى بمطاردة الجرذان بين المطبخ ، والشّرفات ، والحمّام !!
في الصّيف الماضي مات " أبو عفيف " .. وورثه ابنه " خالد " الّذي ورث عن أمّه ربوًا مزمنًا كاد أن يودي بحياته ليلة عرسه ، ولكنّ اللّه سلّم !!
لم يكد " خالد " قادرًا على إطعام نفسه ، فما الّذي جرّأه على الزّواج ؟؟؟ بل من أين له ذلك المال الّذي " نفض " به البيت من أساسه صبغًا ، وأثاثًا ، ومنافع ؟؟؟
نعم ، مات " أبو عفيف " .. دفنه أقرباؤه ، وشيّعه أصدقاؤه ، وجيرانه .. ولمّا أراد ابنه " خالد " في اليوم التّالي لدفن والده ، أن " يهوّي " سرير المرحوم ، وجد صندوقًا خشبيًّا صغيرًا تحته .. فتحه دون تردّد .. كان فيه فقط ، خمسون ألف دولار !!!